الشئ اللآخذ باللب بحق فهو أني نسيت بمرور السطور والوقت غايتي التي من أجلها قرأته . . فلقد سلب مني مجامع القلب صدق الطريقة التي استولد بها من رحم الخيال طفله إميل !!. . فدليل الحاجة عندي عين الخيال وإلا فيم ياترى يرى الرحال قريح الحلق بين الصحاري نبع السراب . ولئن أخطئتم فحاسبتم روسو على هذا الكتاب مرة كمفكر فيلسوف يقظ العقل . فحاولوا أن تنصتوا إليه أخرى كرجل وحيد حالم من فوق هذي السطور يئن : وإني بهذه السن. . أحوج ما أكون إلى طفل فبمثل ذلك فقط أصبت كبد الكتاب!! . في يوم ما هجر روسو أطفاله كلهم. . بل وإليهم أبدا لم يعد !! هكذا دون نادما بثلاثة أجزاء من الاعترافات فإن لم تكن بعد لها قارئا فهامش المترجم سيكون كافيا لتعرف . فلقد أجهز عليه بالطعان مرتين جاهرا بذاك الذنب . لذا قررت من حيث كوني بهذه الحياة لا أدري ما قد يفعل بي ولا بكم وبالرغم من أني أتفق مع بعض ما كتب روسو هنا وعن بعضه أختلف إلا أن حسبي منه أنه يوما بما اقترف من الإثم قد اعترف وبهذا الكتاب أعلنه أمامكم مربيا فاضلا بل وأبا عطوفا لإميل ولو كان بالإمكان أن أحيل خطايا الأيام بالاعتراف رزمة من ورق لأبدلته تلك الآثام بصك غفران ثم فعلت مثله.
إن أردت أن أختصرتحت عنوان واحد ما أسهبه جان جاك روسو على مدار هذه الثلاثمئة وخمسون صفحة من تعاليم التربية لما اخترت غير منهج الطبيعة. . والطبيعة فقط!! سواء أكانت بنزعة الروح أم في فطرة الجسد فهاهو يرفض بشدة فرط الدلال وإفراط الحماية بدءا بتفاصيل دقيقة كاتخاذ المربيات والمرضعات عن أمه كبديل وكشد القماط والأردية على خاصرة الطفل في أيامه الأول. . وحتى أدق وأقصى قيود الحرص لآخر الآجل. . ولعل هذين المقطعين فيهما على منهجه ذاك الذي عييت في اختصاره بعض دليل:
فعن عادات الجسد يقول روسو :"إن المرء ينبغي أن يصون طفله وهذا لا يكفي بل ينبغي أن نعلمه كيف يصون نفسه حين يضحى رجلا وكيف يحتمل ضربات القدر وكيف يواجه البؤس والنعيم وكيف يعيش ان اقتضى الأمر في الزمهرير والقيظ وعبثا تحتاط حتى لا يهلك فما من الموت مفر إن واجبك أن تعلمه كيف يعيش لا كيف يتحاشى الموت"
أما عن طبائع الروح فقال: " إن الناس في الحالة الطبيعية سواسية ومهمتهم المشتركة أن يكونوا رجالا وأنا لايعنيني أن يكون مصير تلميذي الانضمام إلى الجيش أو الكنيسة أو الاشتغال بالقانون فالطبيعة تندبه قبل كل شئ للحياة الإنسانية والحياة هي المهنة التي أريد أن ألقنه إياها وحين يتخرج من بين يدي لن يكون قاضيا أو جنديا أو قسيسا بل سيكون إنسانا قبل كل شئ بكل ما ينبغي أن يكونه الإنسان وسيعرف كيف يكونه على الوجه الصحيح ومهما غيرت صروف الأيام من وضعه فسيكون دائما في موضعه الحق"
رغم انحيازه المعروف للإنسانية فلقد اتهم روسو بهذا الكتاب أيضا بشئ من الطبقية, . كونه أصر على اختيار تلميذه إميل بناء على صفات منتقاة. . من ضمنها أن يكون متوسط الذكاء و يشترط فيه حسن التكوين و صحة البدن وأن لا ينتمي إلى طبقة الفقراء. . وقد علل اختياراته تلك بتعليلات قد لا تعنيني في شئ قدر ما تعنيني حقيقة أن لو كان للمرء أن يهب للأطفاله أقدارهم لما اختار أبعد من ذلك. . فيقول روسو في مقاطع شتى على سبيل المثال:
" فإذا أتيح الي أن أختار فسوف أختار طفلا متوسط الذكاء وسأفترض أن تلميذي إميل هكذا فتعليم العاديين هو الذي يصلح مثلا يحتذى في تعليم نظرائهم أما من عداهم فقادرون على تربية أنفسهم مهما يكن من شئ ". . ثم يستطرد بموضع آخر: " ومادام الفقير يربي نفسه للرجولة التي تليق بطبقته من تلقاء نفسه فمن الأوفق إذن أن نختار تلميذي من الثراة لنخلق رجلا لو فقد عناية المربي لما صار ذلك من تلقاء نفسه ولا يهمني أن يكون إميل ذا حسب ونسب فإني بذلك أكون قد أنقذت من براثن الأباطيل الموروثة فريسة بريئة!!"
أما عند هذا الشرط فستفهم وتتفهم غايته كلها. . يقول: " وليكن إميل يتيما إذ ليس يعنيني أن يكون له أب أو أم وبما أني سأتحمل جميع أعبائهما وواجباتهما فسأرث إذن جميع حقوقهما إنه طبعا يجب أن يكرم أباه وأمه ولكن لا ينبغي أن تكون طاعته لأحد سواي من الناس !. . فهذا هو شرطي الأول لقبول رعايته أو لعله شرطي الأوحد!"
وكان له في شأن التهذيب والآداب مقالات شتى فيها من الإفادة ما فيها غير أني سأنتقي منها هذه لكونها لامست في نفسي وترا ما. . يقول روسو: " واحذر على الخصوص من تلقين الطفل صيغا شكلية فارغة للتهذيب فإنه سيستخدم ذلك عند الحاجة وكأنه رقية سحرية لإخضاع جميع من يحيطون به وللحصول فورا على كل ما يشتهيه إن التربية المتحذلقة التي درج عليها الأثرياء تجعل الأطفال محبين للتسلط وإن يكن ذلك في أدب ظاهري لأنهم يعلمونهم الألفاظ التي ينبغي أن يستخدموها حتى لا يجسر أحد على مقاومتهم ولكن الملاحظ أن هؤلاء الأطفال ينطقون تلك الألفاظ المهذبة بلهجة وسمت لا يدلان مطلقا على الترجي بل يكونون وهم ينطقونها مثلا للعجرفة بل إن عجرفتهم في ذلك الموقف أشد من عجرفتهم وهم يأمرون بصراحة وكأنهم وهم ينطقون بالرجاء واثقون من الطاعة سلفا. . ومن أول وهلة يشعر الإنسان وهم يقولون له من فضلك أنهم يقولون في الحقيقة : من فضلي. . أما أرجوك فمعناها على لسانهم آمرك. . فيالها من تربية جميلة !! ويا له من أدب رائع !! ذلك الذي لا يحقق إلا قلب مدلولات الألفاظ على ألسنتهم وإني لأوثر ألف مرة أن يقول ببساطة وبرجاء قلبي: إفعل هذا على أن يقول بأمر وغطرسة أتوسل إليك فليس المهم في نظري هو لفظ الطلب بل الشعور اللذي يصاحب اللفظ وهناك دائما حد وسط بين التفريط والإفراط"
يرى روسو أن لا فائدة في مجادلة الطفل في أول عهده بالحياة حول الصواب والخطأ بل يرى أيضا أن حشو عقله الغر بشعارات الفضائل بذلك السن هو هراء لا نفع فيه بل قد يؤدي به إلى حفظ ألفاظها دونما وعي حقائق معانيها ويرى أن الفطرة جبلت الطفل على ملكة واحدة فقط هي غريزة الملكية ومنها تستطيع أن تبث إليه الكثير من الفضائل راقني منها هذا المثال الذي يقترح فيه وهب الطفل قطعة صغيرة من بستان لزراعتها. . ثم يقول:" وسأقاسمه هوايته وأعمل معه لا للذته هو بل للذتي أنا فأصبح معاونه في فلاحة البستان وأقلب معه الأرض بالفأس حين تعجز ذراعه عن ذلك ثم يزرع حبة فول ويتعلم معنى الملكية بهذا العمل ولا شك أن إحساسه بملكية هذه النبتة أقدس وأشد احتراما عنده من إحساس المكتشفين لدولهم لمجرد قيام المكتشفين بغرس أعلام تلك الدول في تربتها وطبعا سيعود الطفل لري الفول وكلما رآه يرتفع تملك السرور العظيم فأزيد على سروره بأن أقول له : هذا ملكك وأشرح له عندئذ لفظ الملكية وأنه ثمرة لما بذله من وقت ومن عمل ومن جهد أي أنه ثمرة لما بذله من نفسه في إنتاج ذلك الشئ "
ومن أهم ما كتب هنا بناظري قوله : "إن غالبية قواعدنا اﻷخلاقية مبنية على تناقض والوصية الوحيدة التي تناسب اﻷطفال من كل الوجوه هي ألا يسيؤا إلى أحد فإن جميع الناس يفعلون الخير أحيانا ولكن القليلين منهم جدا هم من لا يسيؤن إلى أحد مطلقا. وهؤلاء وحدهم هم الفضلاء بمعنى الكلمة "
أما فيما يختص بالتعليم الدراسي فتعاليمه أصابتني بالإحباط خاصة في زمن كزماننا لا مناص فيه من تعليم التلقين الذي انتقده بل رفضه لإميل بشدة وحسم فالتاريخ لا يفهم إلا بالتجربة والفكر والجغرفيا لا تعلم إلا بالترحال والنظر. . والعلوم لا تدرك إلا بالحاجة والتأمل واللغات لا تعني شيئا إن لم يفطن مدلولات لغته الأم أولا وكذا بشتى العلوم ويقول في ذلك :
" قد تكون معلومات إميل العلمية بهذه الطريقة محدودة ولكنها على قلتها جيدة كلها وصائبة إنه قد يجهل الكثير ولكن ما من شئ مما يجهله سيعجز عن معرفته بهذا التكوين العقلي فذهنه متفتح ذكي ومستعد لمعرفة كل شئ فهو على حد تعبير مونتاني :
إن لم يكن متعلما فهو قابل للتعلم وحسبي منه أنه يعرف كيف يكتشف المراد من كل ما يفعله والسبب في كل ما يعتقده"
لم يكتف روسو بتخيل حياة طفله أميل من المهد إلى الرشد فحسب بل قام أيضا بانتقاء عروسه صوفي والتي جعل منها بفصله الأخير الوجيز موضوعه في تربية الإناث الأمر الذي اتخذه البعض ذريعة لانتقاد روسو مرة أخرى كونه راعى في تلك التربية التحفظ على الفروقات الفسيولوجية والأدبية والاجتماعية فيما بين الجنسين وهراء كانت انتقاداتهم برأيي. . فهو كما حافظ في توجيهاته تلك على أن تكون في المقام الأول أما فاضلة وزوجة مخلصة فلقد أعاد وكرر حرصه على أن تكون تقية في غير تشدد ومثقفة في غير تنطع ومن يقرأ تلك القصة القصيرة التي ذيل بها كتابه والتي وإن احتوت على بعض السذاجة المحببة إلا أنها أظهرت من خلال الطريقة التي رسم بها روسو اللقاء المتخيل بين إميل وصوفي بالإضافة إلى محاوراتهما أنه وهبها كأنثى كرامة ونبلا بالطباع هو أحق بالأثرة وأجدر بالاتباع.
"وأيما رجل عجز عن النهوض بأعباء الأبوة حق النهوض فما من خصاصة أو عمل أو جاه بشري يمكن أن تعفيه من واجب إعالة بنيه وتنشئتهم بنفسه قد لا تصدقني أيها القارئ ولكني نذير من بين يدي ندم شديد لكل من به نسمة حياة ثم تخلى عن تلك الواجبات المقدسة ليذرفن الدمع السخين على ما فرط فيه ولن يجد له من حسرته سلوانا!!" هكذا قال روسو بلسانه هو على ضفاف بداية الكتاب.
"هنئ تلميذك يا أستاذي فإني سأغدو أبا عما قريب وحاشا لله أن ألقي إليك بأعباء تربية الابن بعد عناء تربية الوالد ! حاشا لله أن ينهض بهذا الواجب المقدس أحد سواي!!". . وهكذا قال بلسان إميل على مشارف نهايته. . وأقول أنا للسائرين فيما بين العبارتين من درب:. . لا تنسوا أن ترفعوا أقلامكم عنه فلقد كفر روسو عن الذنب. .
Download And Enjoy امیل Illustrated By Jean-Jacques Rousseau Presented As Manuscript
Jean-Jacques Rousseau