Get Started On الحرافيش Originated By Naguib Mahfouz Issued In Paper Edition

on الحرافيش

لها من مصادفة عظيمة أن يسكن في حارة عريقة ويقرأ في نفس الوقت عملا أدبيا بقلم أعظم من كتب عن الحارة المصرية كانت ليلة صيف استثنائية خالية من الرطوبة الخانقة والبعوض المزعج وكان مستلقيا على الأرض في شرفة بيتهم يتأمل نجوم السماء ويستنشق عبير زهور الريحان المزينة لجدران الشرفة والتي ورث حبها عن أبيه بين يديه رواية بدأ في رحلته معها منذ يومين بينما يجلس على المقهى الساكن بجوار منزلهم سلبت عقله وأفقدته رشده من فرط حلاوتها. لقد قطع شوطا كبيرا في الرواية انتهى من قرابة نصفها سحر غريب يدفعه لالتهام صفحاتها تباعا كأنه يعيش بداخلها كأنها تحكي قصته تحكي تاريخه وتاريخ أهله وتاريخ حارته حارته التي عشق ترابها صغيرا حينما كان يتصور أن العالم يقتصر عليها فقط. لم تفارقه الرواية حتى في أحلامه واختلطت عليه الحقيقة بالخيال مرارا من فرط اندماجه معها. نهض من نومه على الأرض ليكمل نومه على سريره وفي أحضانه كنزه الثمين ملحمة الحرافيش

مسرح خالي إلا من بعض عمال النظافة يراقبهم في صمت مرت دقائق لم يشعروا خلالها بوجوده انتهوا من أعمالهم وبقى واحد منهم فقط في المكان يبدو كهلا يشرف عليهم ربما هو رئيسهم في العمل. المسرح شبه مظلم لا تضيئه سوى كشافات صغيرة تسكن السقف الشديد الارتفاع فتضفي على المكان رهبة مشوبة بالهدوء. يتقدم هابطا درجات السلم الفاصل بين صفوف المقاعد تتضح هيئة الكهل شيئا فشيئا هيئته تتبدل تتغير جلسته على حافة المسرح بعباءته الفضفاضة والعمامة الملفوفة على رأسه أطاحت بفرضية أن يكون عاملا للنظافة بحق ولكن كيف تغيرت هيئته هكذا لحظة. . يبدو أن المكان نفسه تغير الإضاءة تغيرت ألوانها وتعززت بكشافات أخرى موجهة على الكهل لتضفي عليه مزيدا من الغموض والرهبة بإرادة مسلوبة وقلب خافق يهبط الدرجات بحذر بينما الكهل جالس كما هو مسربل بهالة من الضوء تخفي ملامحه ممسكا بعكازه ناظرا لأسفل. . ويجلس صاحبنا على أحد المقاعد البعيدة نسبيا عن المسرح خشية الرجل الغامض لحظات من السكون ثم. .

إضاءة كاملة على المسرح مجسمات ضخمة ظهرت من العدم لبيوت بسيطة ذات محلات مختلفة بأدوارها السفلى وعشش للطيور والحمام على سطوحها رباه! ما أبدع هذ التصميم يكاد يكون حقيقي أهو حقيقي فعلا. نعم. . حقيقي جاء الرد من الكهل الذي نهض من مكانه متوجها نحو الجالس وحده بين الصفوف بخطوات واثقة وئيدة يخترق المقاعد ليصل إلى المتفرج المرتبك يجلس بجواره عمامته ملتفة على وجهه كاللثام فتخفي ملامحه يجلس الكهل بجواره دون أن ينبث ببنت شفة وكأنه لم ينطق برده منذ لحظات يهم المتفرج بالسؤال فيعجز لسانه عن الكلام بعد لحظات من تأمل الكائن الغامض يلتفت من جديد نحو خشبة المسرح يتحدث بصوت مسموع: حسنا لنشاهد المسرحية الغريبة هذه. . ونجح مقصده أثار اهتمام الجالس بجواره للرد عليه تبدأ رأس الكهل بالتحرك بمنتهى البطء نحوه حتى تلتقي العين بالعين وكأنه يبتسم من خلف اللثام يرد: ليست مسرحية ليست تمثيلا إنها الحقيقة.

يتلاشي وجود الكهل من أمامه ويتحول لذرات من تراب تتراقص على خلفية من ضوء ناصع البياض يغطي عينيه بيديه حجبا للضوء الساطع لحظات ثم ينزل كفيه عن عينيه يفتحهما برفق تتحول نظراته من نظرات الخوف والرهبة إلى نظرات الدهشة يهم بالنهوض من مكانه ليتأمل ما حوله ما هذا المكان أهي حارته لا ليست حارته هؤلاء أناس لا يعرفهم ولم يقابلهم من قبل وبينما يتأمل البيوت أمامه ينتبه لصبي القهوجي يمرق من أمامه ممسكا بصينية عليها عدد مهول من أكواب الشاي وفناجين القهوة الفارغة يتجاوزه مسرعا في طريقه إلى داخل القهوة إنه يجلس في قهوة! كيف متى أتى إلى هنا وأين ذهب الكهل الغامض والمسرح الغريب يهم بالمشي فينتبه للعباءة التي يرتديها والعمامة الملتفة على رأسه! تجاوز دهشته وارتباكه وتلفت حوله بحثا عن وجوه مألوفة ولكنه عثر على شيء آخر صوت مألوف ترانيم عجيبة تهبط على أذنيه من مكان مجهول ترانيم غير مفهومة ولكنه سمعها من قبل مهلا إنه يعرف هذا المكان. .

فور تعرفه على المكان تلاشت الأصوات وامتزجت الأوجه من حوله وحل الضوء الساطع أمامه من جديد لينقشع بعد لحظات ويبصر نفسه واقفا وسط الحارة حوله محلات وبيوت ومقهى يشبه المقهى الذي كان يجلس عليه منذ دقائق ينتبه إلى ثبات الناس من حوله كالتماثيل وهو وحده النابض بالحركة يتنقل من مكان لمكان من محل لمحل هنا العطار وهناك الفتوة يجلس في أحد أركان المقهى متوسطا حرافيشه وأعوانه وهذا بيت شيخ الحارة أما هذا الطويل الفارع الجالس على الكارو الثابتة في مكانها فهو عاشور الناجي!. كيف يعرف كل هؤلاء يمسك برأسه دفعا للتهيؤات التي تسيطر على عقله وفجأة تنبض الحياة من حوله وتتحرك الأجساد التي كانت كالتماثيل يستمر الفتوة في ضحكه مع من حوله وتمر من أمامه عربة عاشور الناجي وكأنه غير مرئي لا أحد يراه بينما يراهم جميعا لا أحد يدرك أنهم كانوا ثابتين منذ لحظات ثم تحركوا فجأة كالمبعوثين من الموت سواه يبتسم يضحك يحب اللعبة.

"هل أدركت أنها ليست تمثيلية أنها ليست مسرحية وأنها حياة وهبت إليك لتعيشها. "
ها هو المسرح من جديد ها هو الكهل الغامض بعكازه العتيق يجلس بجواره مرة أخرى ويحدثه ها هو يعود من المجهول إلى المجهول ولكن هذه المرة ليس خائفا بل متشوقا وعلى أحر من الجمر يتلهف ليسمع تفاصيل الحكاية يحتمي وراء صمته وينظر للمسرح للحارة المتجسدة أمامه من جديد بكامل شخصياتها التي رآها وسار بجوارها منذ لحظات

نعم أيها المتفرج إنها مسرحية كبرى ملحمة عبقرية ذات أماكن ثابتة تتوالى عليها الأجيال
Get Started On الحرافيش Originated By Naguib Mahfouz Issued In Paper Edition
تباعا تبدأ من عهد عاشور الناجي ثم تنتهي عند عاشور الناجي الآخر الحفيد بن الأحفاد. تتعاقب الأزمنة تتعاقب الأجيال على خشبة مسرح الحياة والمناصب والأدوار ثابته الناس فقط هم من يتغيرون. عالم يتكون من حارة يقودها فتوة وسيلة النقل الرئيسية بها هي عربة الكارو تجارتها في الغلال والحبوب بها حانة للخمر وبها عاشقات للهوى والغواية وبها رجال من أصلاب الرجال دستورهم العدل وقانون حياتهم القوة لمن غلب وما دايم إلا وجه الله يا خلق الله.

كم يحتاج الإنسان من عمر كي يلاقي أكبر قدر ممكن من البشر مختلفي الأنفس والأهواء خمسون عاما ستون مائة. إجابات منطقية بلا جدال ولكن ماذا إن أخبرتك أن بإمكانك أن تعيش برفقة أغلب أنواع النفوس البشرية خلال أيام معدودات جنون أليس كذلك لا ليس جنونا ويبدو يا سيدي أن زمن المعجزات لم ينتهي بعد.


ينقطع صوت الرواي المنبعث من مكان مجهول تدور أحداث المسرحية الفتوة يبدأ عهد فتونته بمعركة طاحنة ثم يحكم الحارة لزمن معلوم ثم ينتهي عهد فتونته بمعركة أخرى قد تنتهي بموته أو سجنه أو هروبه وهكذا دواليك. . وعاشور الناجي يتزوج وينجب جيلا يتوارث عنه الفتونة الذكور يتزوجون لينجبوا إناثا ومزيد من الذكور الآخرين ثم يأتي الأحفاد الذكور فينضجون ويصيرون رجالا أشداء يتوارثون عهد جدهم العظيم وأما الأحفاد الإناث فتتزوجن من رجال أغراب لينجبوا مزيدا من الإناث والذكور ليعيدوا نفس دورة الحياة وبينما تمضي الحياة تتوالى ذرية عاشور الناجي جيلا بعد جيل تضرب لنا أمثال الحب والحكمة من الحياة وتدور الصراعات وتتوالى الصدمات بلا مقدمات وتتوزع الشخصيات بتتابع محسوب ونسق مدروس في إيقاع لاهث يخفق القلب من شدة إثارته لتخرج في النهاية ملحمة متكاملة تتصارع فيها كافة أنواع النفوس قوة وضعف جوع وشبع طمع ورضا كبرياء وخنوع تقوى وفجور قتل ثم هروب ورجوع بعد غياب وترانيم تتردد نغماتها الساحرة في الأجواء تدور المسرحية وتدور والفتوة يتبعه فتوة وشيخ الحارة يتبعه آخر وأبطال الملحمة هم ذرية عاشور الناجي اسم الله عليه. . اسم الله عليه.

انطفأت إضاءة المسرح بعد ساعات تمهيدا للدخول في الفصل الأخير الخاتم للملحمة يلتفت المشاهد للكهل فيجده قد اختفى يكمل وحده مشاهدة المسرحية حتى النهاية. أسدل ستار الختام وانطفأت الأضواء وانتهت الملحمة عند اللانهاية وينهض المتفرج الوحيد للتصفيق وبينما كانت يداه على وشك الالتقاء يختفي المسرح وتختفي شخصياته من حوله من جديد ليجد نفسه جالسا على مقهى شعبي وصوت تصفيقه كان جرسا لاستدعاء صبي القهوجي وينما يتأمل الناس من حوله متفاجئا يجد بينهم وجوها مألوفة ثم يلتفت لصبي القهوجي يحدثه: أوامرك يا باشا أخيرا اتحركت! ها ها افتكرتك ميت والله ها ها بعد الشر عليك طبعا انا بضحك معاك القصد أنك بقالك ساعات قاعد نفس القعدة دي لا بتتحرك ولا بتنطق وده مش أول يوم أصل محسوبك حدق برضو وواخد باله منك يا سيد الناس وعارف أنك بتيجي القهوة كل يوم تقعد على نفس الترابيزة وتشرب نفس المشاريب وتقعد نفس عدد الساعات ومعاك نفس الكتاب ده شاي فيف سكر برة مش كدة ثواني وهيكون عندك. .

ينهي القهوجي كلامه موجها التحية للشاب ينتبه الشاب في نهاية حديثه إلى الرواية القابعة بين يديه يبصر صفحة مفتوحة على سطرين من الترانيم الغامضة يليهم بياض ناصع يشير لنهاية الرواية ونهاية الرحلة يغلق الرواية ويتأمل حروف غلافها البارزة الحرافيش يقبلها يحتضنها كحبيبة طال الاشتياق إليها وينادي على الصبي ليجلب له مشروب العناب المحبب إليه بدلا من الشاي كان العناب هو المشروب الرسمي لهذه الحقبة في حارته في عهد السبيعنيات الجميل يمني الشاب نفسه بصوت عالي: ليتني ألتقي بك يا سيد نجيب ليتني ألقاك لأحكي لك عما فعلته بي بملحمتك هذه. .

وبينما يتم جملته إذا بشخص كان يجلس على بعد منضدتين منه منذ فترة لم ينتبه إليه من قبل يغلق الجريدة الممسك بها ويطويها تحت ذراعه وينهض لتصدم الشاب الدهشة إنه نجيب محفوظ! يرتبك من فرط انفعاله وينهض من مكانه بينما تسقط الرواية على الأرض يفرك عينيه ويهبط على قدميه ليأخذ الرواية وبينما ينهض يجد أن الرجل قد رحل وابتعد مسافة خطوات عن المقهى لا يبدو منه سوى ظهره يفرك الشاب عينيه مرارا وهو واقف بينما يردد في سره: رباه لا بد أنني أهذي لا بد أنني مازلت أهذي. . رباه ماذا فعلت بي يا محفوظ

وظل مكانه مراقبا الرجل المبتعد عن المقهى بخطوات وثيرة حتى اختفى. .

تمت.

.